أحدث المنشورات
التصنيفات
كلمات مفتاحية
- Home
- مقالات
لم يكن الصحفي المقرّب من سلطة الأمر الواقع يدرك أن جملته العابرة خلال ظهوره على شاشة “الإخبارية السورية” الرسمية، في الثامن والعشرين من تشرين الأول الماضي، ستفتح الباب على واحدة من أعمق أزمات البلاد بعد سقوط حكم بشار الأسد وصعود هيئة تحرير الشام إلى سدة الحكم.
قال: إن الشرطي القادم من إدلب إلى دمشق يتقاضى 450 دولارًا، بينما لا يتجاوز راتب من وصفه بـ “المتعاقد” في العاصمة 150 دولارًا. جملة بدت بسيطة، لكنها كانت كافية لتسلّط الضوء على خللٍ لم يعد خافيًا: رواتب بلا عدالة، ووظائف بلا معيار.
ما قاله الصحفي لم يكن زلة لسان بقدر ما كان انعكاسًا لواقعٍ متجذر داخل المؤسسات الحكومية، حيث تُدار الملفات المالية بعقلية “المكافأة على الولاء” لا على الكفاءة، وتفرض “سلطة الأمر الواقع” سلّمًا جديدًا من الامتيازات يضع القديم تحت رحمة الجديد.
مصادر خاصة أكدت أن التفاوت في الأجور لم يعد محصورًا بقطاع دون آخر، بل شمل مؤسسات يفترض بها أن تكرّس المساواة بين العاملين، وهي الفكرة التي حلم بها السوريون طويلاً.
في القطاع الصحي، مثلًا، يتقاضى بعض الأطباء “الجدد” رواتب تصل إلى 500 دولار شهريًا، بينما لا يتجاوز راتب زملائهم من الاختصاص ذاته مئة دولار، رغم سنوات خدمتهم الطويلة.
هذا التفاوت يزداد غموضًا في ظلّ غياب البيانات الدقيقة حول ما يتقاضاه المسؤولون والإداريون في المستويات العليا.
وفي قطاع الإعلام، تتسع الفجوة ذاتها. الموظفون الجدد في وزارة الإعلام يتقاضون رواتب تبدأ من نحو 300 دولار وفي بعضها تتعدى ال700 دولار، فيما لا يتجاوز راتب القدامى حاجز المئة دولار، فروقات كهذه لا تولّد إحساسًا بالظلم فحسب، بل تزعزع الثقة داخل المؤسسات، وتدفع بعض الموظفين القدامى نحو الاستقالة أو الصمت القسري.
الأزمة لا تتوقف عند حجم الرواتب، بل عند غياب الشفافية التي تحكم هذا الملف، فلا توجد سجلات أو كشوفات رسمية منشورة تبيّن مستويات الأجور أو آلية تحديدها. كما لا تتوفر بيانات يمكن الرجوع إليها لقياس العدالة بين العاملين في القطاع نفسه، هذا التعتيم، بحسب مراقبين، لا يبدو مجرد غياب للمعلومات، بل سياسة مقصودة تبقي الموظف في حالة من الحيرة وتمنح الإدارة قدرة شبه مطلقة على التحكم بالمصير دون مساءلة.
أما والحال تلك، فإن النتيجة تبدو واضحة، موظف قديم يعيش على الفتات، وآخر جديد يحيا في دائرة الامتياز، وبين الاثنين، تتسع الهوة لتتجاوز المال نحو العدالة والانتماء، فالموظف الذي كان يرى نفسه جزءًا من جهاز الدولة بات يشعر بالغربة داخلها، يُنظر إليه بوصفه “عبئًا قديمًا”، بينما يرى القادمون الجدد أن الأجر مكافأة على الولاء لا على الجهد.
الزيادة الأخيرة التي أعلنتها سلطة الأمر الواقع بنسبة 200% لم تغيّر المعادلة، فالراتب القليل بقي قليلاً، والغلاء مستمر في الصعود، لتتعمّق الفجوة أكثر بين “الأوفياء الجدد” و“القدامى المتعبين”. ومع التضخم الذي يلتهم أي زيادة خلال أيام، يصبح العجز عن تلبية أبسط الاحتياجات اليومية واقعًا مشتركًا، لكنه غير متكافئ في المعاناة.
هذا التفاوت لا يخلق فقط شعورًا بالظلم، بل يشكّل خطرًا مباشرًا على استقرار المؤسسات نفسها، وهكذا لا تُنتج الزيادات ولا التعديلات الموعودة مساواةً أو تصحيحًا للمسار، بل تُعيد إنتاج دورة الفساد ذاتها التي تُكرّس التفاوت المالي كآلية للنفوذ والسيطرة.
من شاشة تلفزيونية إلى وزارة، ومن مستشفى إلى إدارة، تتكرر القصة ذاتها: راتب يساوي ولاء لا كفاءة.
وفي النهاية، يتقاضى الجميع ثمنًا واحدًا، بلد يتآكل من الداخل، ومؤسسات تفقد معناها، وموظف لم يعد يعرف إن كان يخدم الدولة، أم يخدم من يحكمها.
الصحفي محمد مروان