أحدث المنشورات
التصنيفات
كلمات مفتاحية
- Home
- أوراق الكتلة
حرية الرأي والتعبير من الحقوق التي ترافق الإنسان من المهد إلى اللحد، وهي ركن أساسي من أركان إنسانيته وكرامته.
يُعتبَر العام 1789 تتويجاً لنقاشات شملت عدة بلدان، طُرِحَت فيها حرية الرأي والتعبير على بساط البحث والنقاشات السياسية والفلسفية والحقوقية. ففي هذا العام، تمّت صياغة وثيقة الحقوق الأمريكية United States Bill of Rights في 1789، وفيها أيضاً صدر “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” في فرنسا. ثبّتت الوثيقة الأولى ما يُعرَف بالتعديل الأول: “يحظر على مجلس الكونغرس تشريع أي قانون يؤدّي إلى دعم ممارسة أي دين، أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى منع ممارسة أي دين؛ أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى تعطيل حرية الكلام أو النشر الصحفي أو حق الناس في إقامة تجمّعات سلمية أو إرسالهم عرائض إلى الحكومة تطالبها برفع الظلم”. جاء في الدستور الأمريكي، وفي “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الفرنسي في المادة 11: “إنّ حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي من أثمن حقوق الإنسان: لذلك يستطيع كل مواطن أن يتكلّم ويكتب ويطبع بحرية، إلا إذا تعرّض لإساءة استخدام هذه الحرية في الحالات التي يحدّدها القانون“.
منذ ذلك العام، نجد هذا الحق الأساسي من حقوق الإنسان في دساتير الدول الغربية، إما بنصّه الأمريكي العام، أو بنصّه الفرنسي الذي ينظم ذلك في القانون، بدءاً من دستور 1781 الأساسي الأمريكي في المادة الخامسة، إلى دستور 1793 الفرنسي في المادة السابعة: “لا يجوز منع الحق في التعبير عن الأفكار والآراء، سواء من خلال الصحافة أو بأي وسيلة أخرى، و لا يجوز منع الحق في التجمّع السلمي، والممارسة الحرّة للدين“.
عبرت هذه النقاشات البحر الأبيض المتوسط، وترجم فرح أنطون وروّاد النهضة عديدَ الإعلانات والمواثيق. ودخلت في النقاشات التي جرت في ما يسمّى بالمشروطية، وهي الترجمة الأولى للعربية والتركية والفارسية لتعبير “الدستور”، ونجد تثبيتاً لها في الدستور السوري الأول للعام 1920 الذي عرّف المواطن السوري بأنه كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، بغض النظر عن دينه أو عرقه (المادة 9) ونصَّ في المادة 19 على أن “المطبوعات حرّة ضمن دائرة القانون، ولا يجوز تفتيشها ومعاينتها قبل الطبع”.
رفع السوريون شعار الحرية والاستقلال في “الثورة السورية الكبرى”، إذ كانت هذه الكلمة مصدر إلهام ووسيلة نضال ضد القمع، وكان من منجزاتها مشروع دستور العام 1928 الذي نصَّ على:
- “السوريون أمام القانون سواء وهم متساوون في التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية وفي ما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين أو المذهب” (المادة 6).
- “حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان حق الإعراب عن فكره بالقول والخطابة أو بالكتابة أو التصوير أو بغير ذلك ضمن الحدود القانونية“. (المادة 16).
في خمسينيات القرن الفائت، وبعد أن كان الشعب السوري قد نال استقلاله، شهدت سورية ازدهاراً ديموقراطياً نسبياً، فانتشرت الصحف ونشطت الأحزاب السياسية وسادت حرية الرأي والتعبير والنقد.
شهدت سورية عدّة انقلابات عسكرية، ولم تتمكّن السلطات الدكتاتورية في حقبة حكمها من شلّ حرية الرأي والتعبير وتعطيلها إلا عبر إعلانها حالة الطوارئ التي صارت المعطّل الأساس للحقوق والحريات في البلاد. وقد مرّت فترة حكم حافظ الأسد بكاملها في ظلّ حالة الطوارئ المعطّلة لكل المواد الدستورية المتعلّقة بالحريات الخاصة والعامة وحرية التعبير والرأي. استمرّ هذا الحال في عهد الأسد الابن الذي وعد بانفتاح إعلامي واسع، لكنْ، بقيت وعوده حبراً على ورق.
بعد استيلاء “هيئة تحرير الشام” على السلطة في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، تمّت مصادرة وسائل الإعلام والصحف الموجودة، ولم يُسمَح بنشر أي صحف مستقلّة جديدة، وشهدنا تكميم الأفواه وتقييد الحريات والبطش الجماعي، ما أنذر بحقبة أشدّ قسوة على الحريات العامة.
إلا أن حرية الرأي والتعبير لم تعد اليوم ما كانت عليه قبل خمسين عاماً، ولم تعد إجراءات المراقبة على وسائل التواصل والمعرفة فعّالة أو قادرة على السيطرة عليها بعد الثورة التقنية الهائلة في التواصل. ولم يعد بوسع أي سلطة مستبدّة أن تحجب عن الناس رأياً أو موقفاً أو معلومة.
لقد كانت سورية قبل الأسد بلداً مُوقِّعاً على العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1968)، ومن واجب أي حكومة في دمشق أن تقدّم تقريراً دورياً عن احترامها لهذا التوقيع. من هنا، فحرية الرأي والتعبير في البلاد ليست منحة من حاكم أو سلطان، بل هي حق طبيعي لا يمكن أن يتنازل السوريون والسوريات عنه. الأمر الذي يعني: أن شرعية السلطة السياسية نفسها تكون في موضع المحاسبة والمراجعة كلما خرجت السلطات عن:
- مبدأ المواطنة الكاملة والمتساوية بعيداً عن أي إقصاء ديني أو فكري أو مذهبي أو اثني.
- استقلالية العمل الإعلامي المكتوب والسمعي البصري.
- إلغاء وزارة الإعلام وتأسيس الهيئة الإعلامية المستقلّة.
- سَنّ التشريعات التي تمنع أي محاسبة جرمية في قضايا حرية الرأي والتعبير، وصون حقوق الإعلاميين ومنحهم الحصانة الكافية.
هذا النضال، من أجل استقلالية العمل الصحفي ووضع ميثاق شرف مهني يسمّى ميثاق الشرف الصحفي، يتطلّب:
- دعم كليات ومعاهد الإعلام المستقل.
- ضمان حرية الوصول إلى المعلومات لكل الصحفيين كمبدأ دستوري.
- ضمان الشفافية المطلقة وإقامة شراكات مع المنظمات الصحفية ودور النشر والإعلام عبر العالم
- إقامة منصات رقمية وجعل الرقابة عليها من خلال مؤسسات المجتمع المدني لا من خلال أجهزة السلطة.
ومن أجل ضمان استقلال الإعلام المرئي والمقروء والمسموع، ينبغي تجاوز مسألة التمويل، وثمة وسائل متعدّدة لذلك:
– تخصيص نسبة من عائدات الإعلانات لدعم الإعلام غير الربحي.
– إنشاء صندوق خاص بتمويل الإعلام وجعل الرقابة عليه لمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني المختصة.
– التعاون مع المنظمات الدولية مع التأكيد على عدم التدخّل في المحتوى التحريري للإعلام بكل فروعه، المرئية والمقروءة والمسموعة.
– دعم كل المبادرات الإعلامية المحلّية الهادفة والتي تعبّر عن مصالح الناس.
في الختام، نرى أن بناء دولة المواطنة لا يمكن أن يتحقّق من دون أوسع مشاركة مجتمعية، ومن أهم ضمانات هذه المشاركة رفع أي حظر أو منع ينال حرية الرأي والتعبير.