أحدث المنشورات
التصنيفات
كلمات مفتاحية
- Home
- مقالات
مرّت امرأة سوريّة ولم يعد ظلّها. حين يُختطف الظلّ، لا تُختطف امرأة واحدة، بل تختفي فكرة الأمان كلّها. وفي زمن الحكومة الانتقاليّة، لم يكن الخوف نتيجة للحرب فقط، بل صار شكلًا جديدًا من النظام، إذ لم تعد السلطة تُمارس من فوق، بل من كلّ الجهات التي تهدّد الإنسان في عاديّته، وهكذا أصبح خطف النساء أكثر من حادثة أمنيّة؛ إنّه فعل رمزيّ يعيد ترتيب معنى الحماية والانتماء، فالمرأة كانت في المخيال الجمعيّ، ظلّ البيت، وضمان الاستقرار الصغير وسط فوضى البلاد.
وحين تُختطف من الشارع، لا يُسقط الخاطف جسدها فحسب، بل يُسقط الطمأنينة التي كانت تحيط بالجميع، وحين تعجز الجهات الرسميّة عن السؤال، يتقدّم الوجدان الجمعيّ إلى الواجهة؛ فيرتفع صوته، لا ليُدين فعلًا بعينه، بل ليذكّر بأنّ الصمت شراكة في الغياب، وأنّ الوطن لا يُبنى على الخوف، ولا يُرمّم بالإنكار، فالجريمة هنا ليست بعدد الضحايا؛ بل بمساحة الفراغ الذي تتركه في وعي الناس، ذلك الفراغ هو الذي يجعل المجتمع يشيخ قبل أوانه، ويعتاد الخطر كأنّه هواء ضروريّ.
كان الصمت إعلانًا عن سقوط النظام الذي كان يوهم بالحماية، لا عن نهاية عهد الوصاية فحسب، بل عن تهاوي فكرة الراعي والسلطة المتعالية أصلًا، فحين لا تسأل الدولة أين ذهبت المخطوفات، تُعلن أنّها لم تعد تفرّق بين الجريمة والمصير، وهكذا صار الخطف لغة سياسيّة صامتة، تُمارس من خارج القانون، وتُترجم الفراغ الذي تركته السلطة في أرواح الناس.
لكنّ الخطر الأكبر ليس في الفعل نفسه؛ بل في تكراره حتى يفقد دهشته، فحين يصبح الاختطاف خبرًا عاديًّا؛ تُصاب الذاكرة الوطنية بالعمى، وتتعلّم المدن أن تكمل يومها من دون سؤال، وتتعلّم الأسر أن تسوّغ الغياب بالصمت، كيلا تنهار، وهنا يتكوّن جيل جديد من النساء اللواتي يعرفن أنّ الأمان فكرة متعبة، وأنّ البقاء يحتاج إلى يقظة تقاوم الاعتياد.
ولأنّ الذاكرة لا تملك طقوسًا للغائبات اللاتي لم يمُتن، تبقى أسماؤهن معلّقة بين السماء والأرض. لا يُقال عنهنّ إنّهن استُشهدن، ولا إنّهن عُدن، بل يُتركن في هواء الانتظار، كأنّ الزمن نسي أن يكمل جملته، وهنا تُصاب اللغة بالعجز، إذ لا تمتلك فعلًا يصف من تُنتزع من يومها، ثم تُترك أثرًا في الذاكرة بلا نهاية. إنّها مأساة لا تصيب الأجساد فقط، بل تصيب اللغة التي لم تعد قادرة على التعبير.
ومع ذلك، فإنّ كلّ امرأة نجت أو روت حكايتها تعيد إلينا إمكانيّة التذكّر من دون تحجّر، فهي لا تطلب الشفقة، بل الإصغاء الذي يعيد ترتيب المعنى. إنّها تذكّرنا بأنّ الخطف ليس فعلًا ضد الأنثى وحدها، بل ضد الإنسانية في أصلها، وضدّ الإحساس بالبيت والسماء والمستقبل، ومن هذا الوعي يبدأ بناء الدولة الحقيقيّة، لا من النصوص الدستوريّة، بل من استعادة معنى الأمان الذي لا يُكتب في الأوراق، بل في القلوب.
ربما تبقى العدالة بعيدة، ولكنّ ما يظلّ ممكنًا هو أن نمنع الخوف من أن يصبح طبيعيًّا،و أن نحرس في ذاكرتنا صورة امرأة تمشي في شارع مضاء، لا تنظر خلفها، لأنّ الوطن يسير إلى جانبها، فربما تبدأ الثورات الحقيقيّة؛ حين تمشي النساء في ضوء لا يخاف، ذلك الحلم البسيط هو الذي يعطي لمعنى «الانتقال» صدقه الوحيد: الانتقال من الخوف إلى الحياة، لكنّ ذلك الانتقال لا يكتمل إلا حين ندرك أن المرأة لا تُغيّب حضورًا، ولا تُقصى دورًا؛ بل يُنتزع بها معنى الحياة حين لا يُمنع عنها أن تكون صوتًا في ذاكرة وطن يظنّ أنه يتكلّم وحده.
د. حنين الغزالي