المهاجرون والأنصار السوريون… من أسطورة الجهاد إلى عبء السلطة

أحدث المنشورات

الخبز المؤجّل: حين يتحوّل الصبر إلى سياسة
bread
الخبز المؤجّل: حين يتحوّل الصبر إلى سياسة
هذا ليس نصّا سياسّيّا، إنما هو محاولة لفهم كيف تتحوّل المعيشة إلى معنى، وكيف يُدار الصبر بوصفه لغة الحياة....
التفاصيل
الطبقية الوظيفية في سوريا... رواتب تُقسّم لا توحّد
classified
الطبقية الوظيفية في سوريا... رواتب تُقسّم لا توحّد
لم يكن الصحفي المقرّب من سلطة الأمر الواقع يدرك أن جملته العابرة خلال ظهوره على شاشة “الإخبارية السورية”...
التفاصيل
تفكيك الرعب: الدوام السريّ للسوريّ في شركة الخوف
terror
تفكيك الرعب: الدوام السريّ للسوريّ في شركة الخوف
لا يبدأ السوريّ يومه بقهوة، أو نشرة أخبار، أو الاستماع إلى فيروز، وإنما بتفحّص غير واع لمستوى الخوف المحيط...
التفاصيل
صرخة من وراء القضبان: آلاف المجندين السوريين بين الاعتقال والإخفاء القسري
prison
صرخة من وراء القضبان: آلاف المجندين السوريين بين الاعتقال والإخفاء القسري
في عمق السجون السورية تختنق أصوات آلاف المعتقلين، بعيدًا عن ضوء الشمس ودفء الحياة. أصواتٌ غُيّبت قسرًا...
التفاصيل
بيان صادر عن لجنة الأسرة والمجتمع في الكتلة الوطنية السورية
BAYAN
بيان صادر عن لجنة الأسرة والمجتمع في الكتلة الوطنية السورية
بيان صادر عن لجنة الأسرة والمجتمع في الكتلة الوطنية السورية حول نتائجَ ما سُمِّيَ «لجنة التحقيق في حالات...
التفاصيل

التصنيفات

كلمات مفتاحية

لم يكن مفهوم “المهاجرين والأنصار” في بدايات الدعوة الإسلامية مرتبطًا بجغرافيا أو سلطة، بل بفكرة أوسع من المكان، تعدّت آنذاك إلى أن مفهوم الإيمان وطن، أو أن النصرة لا تحتاج إلى حدودٍ أو رايات، كانت المدينة في يومها تُفتَح بالقلوب لا بالبنادق، وكان القادمون إليها يحملون تعب الطريق لا شهوة الحكم.

لكن ما قُدِّم منذ اندلاع الحرب السورية على أنه “هجرة حديثة” غادر فعل الإيمان ليصبح مشروعًا سياسيًا، تفرّق القادمون من كل فجٍّ عميق، ومن خرائط متنازعة بين مشرق الأرض ومغربها، وتنوّعت الألسنة من العربية والفرنسية إلى الأوزبكية والشيشانية.

عام 2013، فُتحت أبواب الحرب السورية على مصراعيها، وبدأت معها ظاهرة ما بات يُعرف بـ”المقاتلين الأجانب” تتشكّل كحالة فريدة في تاريخ الصراعات الحديثة، منذ ذلك الحين تدفّقت جموعٌ من المقاتلين الأجانب من أصقاع الأرض، يحمل كلٌّ منهم روايته الخاصة عن “الجهاد” ونصرة المستضعفين، من أوروبا إلى آسيا الوسطى، ومن الضواحي الباريسية إلى وديان إدلب، اجتمع “المهاجرون” على وعدٍ واحد: “إسقاط النظام الكافر العلوي وبناء دولة الإسلام”.

ومع وصولهم إلى “مدينة الإسلام” الموعودة، وجدوا أن “الأنصار الجدد” ليسوا كأنصار المدينة، بل جماعاتٌ متعبةٌ من حربٍ طويلة، تحمل من الدين شعاراته، ومن الوطن أنقاضه، ومن الثورة بعضًا من أحلامها.

توالى تدفّق أعداد كبيرة من “المقاتلين الأجانب” من مختلف أنحاء العالم للانخراط في القتال، وفي ذروة النزاع قدّرت بعض التقارير أن عدد المقاتلين الأجانب بلغ حوالي 42,000 مقاتل من أكثر من 120 دولة.

أرقامٌ تغيّرت اليوم وفق التقديرات إلى نحو 14,000 مقاتل موزّعين على جنسيّاتٍ مختلفة، حيث تنقل مصادر صحفية محلّية أنهم يتوزّعون بصورة متفاوتة: التركستان حوالي 5,000 مقاتل، وتذهب تقديرات المصادر إلى أن عددهم مع عائلاتهم يصل إلى 30,000، بينما يُقدَّر عدد الشيشان والأوزبك بحوالي 2,200 مقاتل، والإيرانيون من البلوش والكرد يقارب عددهم 3,000، عدا عن جنسيات أخرى كالمغاربة والتونسيين وعرب الحجاز، فيما يُقدّر عدد الفرنسيين بنحو 150.

أرقامٌ تعكس حجم تدفّق المقاتلين الأجانب إلى الأراضي السورية، على تنوّع جنسياتهم والبيئات التي ينحدرون منها.

تراجع الخطّ البياني لأعداد المقاتلين الأجانب يدفع للتساؤل، هل انتهى مشروع “المهاجرين” تمامًا، أم أنه دخل طورًا جديدًا أكثر انغلاقًا وسرية؟ وما الشكل الذي سيتّخذه وجودهم القادم؟ وهل ستبتلعهم الأيديولوجيا من جديد كما ابتلعت سابقيهم؟

كان حضورهم في البداية يُقدَّم بوصفه “رصيدًا للثورة”، رجالًا عبروا القارات دفاعًا عن “الحق”، حاملين معهم صورًا من حروبٍ أخرى في أفغانستان والشيشان والعراق، وأعادوا إنتاجها في سورية تحت شعارات الخلاص، غير أن الدولة التي وُلدت من رحم المعارك وصعدت إلى سدة الحكم لم تشبِه الحلمَ أبدًا بالنسبة لأولئك المهاجرين، بل صارت النسخة الأكثَر تصلّبًا وتسلّطًا من ذلك “النظام الكافر”.

ما بدا ذات يوم “نصرةً” انقلب لاحقًا إلى عبءٍ ثقيل، بعد أن تسرّب إلى داخل الفصائل منطق “الوصاية على الجهاد”، ومن خلفه صراع الزعامة على من يمثّل الإسلام أكثر من الآخر.

مع مرور السنوات تغيّرت الرايات وتبدّلت الأسماء وانكشفت الأوهام، وسقط نظام الأسد، وصعدت جماعاتٌ متطرّفة، وفي هذه اللحظات ربما بدأ المهاجرون يفقدون معناهم، لم يعودوا ضرورةً عسكرية أو رصيدًا معنويًّا، بل أصبحوا عبئًا قائمًا على أيّ مشروع حكمٍ يريد الاستقرار على حساب العقيدة.

حادثةُ حارم الأخيرة لم تكن سوى الصورة النهائية في هذا التحوّل الطويل، فاشتباكٌ بين ما يُسمّى “قوى الأمن الداخلي” التابعة لسلطة الأمر الواقع، ومجموعةٍ من المهاجرين الفرنسيين بقيادة عمر أومسين، سرعان ما توسّع بعد تدخّل مقاتلين أوزبك “نصرةً لإخوانهم الفرنسيين”، في مشهدٍ بدا وكأنه استدعاءٌ أخير لزمنٍ مضى، حين كانت الأيديولوجيا تتفوّق على الجغرافيا.

انتهى الاشتباك باتفاقٍ مكتوبٍ يقضي بتسليم الأسلحة الثقيلة، ووقف الحملات الإعلامية العدائية (ضد السلطة)، وفتح المخيم للتفتيش من قبل سلطات الأمر الواقع، إضافةً إلى إحالة قضية عمر أومسين، خاصةً اتهام الخطف، إلى وزارة العدل للمراجعة وفقاً “للشريعة الإسلامية”، فيما تولّت مهمة الوساطة أسماءٌ لا تمتّ للجغرافيا السورية بصلة مثل “عبد العزيز الأوزبكي”، “أبو أنس الطاجيكي”، مقابل ممثل سلطة الأمر الواقع أبو عبدو طاعوم.

نهايةٌ تبدو إدارية، لكنها في الحقيقة فصلٌ جديدٌ من حكايةٍ لم تنتهِ بعد، إذ لم يعد السؤال “ماذا بقي من المهاجرين؟” بل “ما الشكل الذي سيتّخذه وجودهم القادم؟”.

من المفارقة أن “الجماعات الإسلامية” التي احتضنتهم يومًا هي ذاتها التي تتولّى اليوم قتالهم، بينما تتوزّع في صفوفها عناصر من قومياتٍ أخرى، أوزبك، شيشان، تركستان، إيغور، كأن الثورة تحوّلت إلى اتحاد دولٍ مصغّر بلا دولة، يتكلّم لغاتٍ كثيرة، وكأن “الثورة” بمفهوم تلك الجماعات أكملت دورتها، من الدعوة إلى “الجهاد”، إلى بناء جهازٍ أمنيٍّ يطارد “المجاهدين”، فالفارق بين الأمس واليوم واحد فقط، ألا وهو السلطة، تلك التي لا تحتمل الشركاء، حتى لو حملوا ذات العقيدة.

قد تكون هذه المرحلة الجديدة ثمرة اتفاقٍ غير مكتوبٍ مع “الخارج الغربي”، حيث تتلاقى المصالح على إعادة ضبط ملف “المهاجرين” بصمت، أو ربما هي نتيجةٌ طبيعية لانغلاق الأيديولوجيا على ذاتها، حين تتحوّل من فكرةٍ إلى دولة، ومن وعدٍ بالخلاص إلى أداة ضبطٍ وتحكّم.

مهما يكن التفسير، فحادثةُ حارم تكشف ما هو أعمق من مجرد نزاعٍ مسلّح؛ إنها تعلن عن انتقال ملف “المهاجرين” إلى طورٍ جديد، طورٍ تتراجع فيه الشعارات أمام الحسابات، وتتحوّل فيه العقيدة إلى عبءٍ أمنيٍّ، وأن الطغيان يمكن أن يرتدي لحية، وأن الدولة التي تقيم “حدود الله” لا تتردّد في تجاوز “حدوده” حتى مع جماعاتٍ شربت من ذات نبع “العقيدة”.

هم لم يُهزموا تمامًا، لكنهم باتوا رموزًا أيديولوجيّةً لم تعد تعرف حدودها، وأسماءً على قوائم الأمن، وبقايا فكرةٍ بدأت بالجنة وانتهت بين المخيمات.

الصحفي محمد مروان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top