أحدث المنشورات
التصنيفات
كلمات مفتاحية
- Home
- مقالات
حين تتحول قضية وطنٍ يواجه مصيره بين الحفاظ على كيان الدولة المهدَّدة بوجودها أو فنائها، ومصير شعبها بين وحدة تعريفه كمجتمعٍ واحد أو شراذم طوائف متحاربة، ثم تجد أن أهم من يقف حارسًا وشاهدًا ومخوَّلًا من العالم كله، أي منظمة الأمم المتحدة، يمارس أخطر أنواع تزييف الواقع من خلال الوقوف عليه وبقربه وإلهائه بقضايا أقل أهمية، حينها ندرك حقيقة أن سوريا كلها تصبح شبيهة بشخصية سانتياغو نصار في رواية قصة موت معلن للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، إذ صوّر كل أفراد القرية ومعرفتهم بأن نصار سيُقتل، بمن فيهم أقرباؤه وجيرانه بل وأمه أيضًا، فتركوه ليلاقي مصيره ذبحًا بالسكاكين.
استمعتُ إلى إحاطة السيدة نجاة رشدي، نائب المبعوث الدولي للأمم المتحدة (لحل) الأزمة السورية، وعلى مدى كلمتها التي بلغت حوالي ثلث ساعة، دهشتُ لحجم تركيزها، فيما يقارب من نصف المداخلة، على حجم مشاركة المرأة في عملية الانتخابات (البرلمانية) السورية التي جرت مؤخرًا والتي انتقدتها، وللحق، بقولها إن هناك من التقتهم هي وهم غير راضين عن الانتخابات.
طبعًا كنتُ قد أرسلتُ للسيدة رشدي منذ أكثر من شهر استغرابي لإصرارها على تسمية العملية بالانتخابات، وهي تعلم أن العملية ليس فيها دعوة للشعب السوري لا للترشّح ولا للتصويت أصلًا، ونحن أمام عملية انتقاء جرت بين سبعة آلاف شخص تقريبًا لعموم سوريا، جرى اختيارهم من سلطة الأمر الواقع، ويمكن تشبيه ذلك بحدّه الأقصى بعملية تخص أحد الأندية الرياضية لكرة السلة، ولكن ليس الفرق الكبيرة بل المتوسطة.
طبعًا، مكتب الأمم المتحدة يعرف رأيي المدوَّن لديهم بوضوح في الواقع السياسي السوري، من خلال الاجتماع منذ عدة أشهر في مكتبهم في دمشق مع السيد غير بيدرسون، المبعوث الدولي وفريقه، لأكثر من ساعة، شرحتُ فيه حلّ الأحزاب السياسية في البلد وخطوات منع العمل السياسي من أصله، والفكرة “العبقرية” بأنهم سوف يخترعون قانونًا جديدًا للأحزاب لكي يتيحوا تأسيس أحزاب جديدة على أساسه. فقلت له إن في سوريا أحزابًا عمرها حوالي قرن من الزمان، كالحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي، ولسنا أمام عملية لتنظيم تأسيس معارضٍ لبيع السيارات. وللحق، فإن السيد بيدرسون قد ضحك على المفارقة وذكر موضوع حظر الأحزاب في إحاطته اللاحقة لمجلس الأمن.
المستغرَب أن السيدة نجاة رشدي تذكر في كلمتها عبارة دون أن تعلّق أو تتحفّظ عليها، وهي أننا أمام عملية انتقالية عمرها خمس سنوات، وهذه الفكرة قد جاءت فقط على لسان رئيس سلطة الأمر الواقع أحمد الشرع في إحدى مقابلاته، ولم تأتِ لا في دستور ولا قانون ولا قرار لمجلس الأمن، فكيف تُمرَّر هكذا عبارة تحدد مصير بلدٍ وشعبٍ على لسان مسؤولةٍ في الأمم المتحدة؟
هنا أريد أن أورد مفارقة للتفكر بها، وهي أننا حين نثقل قضيةً ما، أو بالعكس نهونها أو نخفف من أثرها، فإن هذه المعادلة هي المعيار الأساس الذي يُقاس عليه مصائر الدول والشعوب. بمعنى أننا لا نستخفّ بقضية تمثيل المرأة في مؤسسة ما، ولكن حين تصبح هي القضية بدلاً من قضية الخطف اليومي لعشرات النساء والأطفال والرجال أمام مسمع دول العالم أجمع، فهذا يُسمى في اللغة العربية تدليسًا «حلس ملس»، وآخر تعبيرٍ استعرته من اللهجة الشامية التي تستعمل عبارة سياسية ذكية أيضًا، فنقول لها نحن الشوام: “يا سيدة نجاة، إنتِ عم تذبحينا بالقطنة، الله يستر عليكِ”.
وللمفارقة أيضًا، ولكي أعطي آخر دليل على أنني لا أظلم أحدًا، فأنا لم أطالب مكتب الأمم المتحدة الواقع في فندق الفورسيزنز على طريق بيروت في قلب دمشق، أن يرسل سياراته المصفحة، والتي لن يجرؤ أحد على الاعتداء عليها بدمٍ بارد أثناء مجازر الساحل التي دامت لأيام أو بعدها أو مجازر السويداء. ولا أريد أن يُقحمني أحد بنقاش تفويضاتهم البيروقراطية، لأنني أذكر تمامًا أن بعثة أممية قد توجهت إلى غير المكان الذي كان مقررًا أثناء الحرب السورية، ولم يمنعها أحد. ولكن كل سكان دمشق يعلمون أن المسافة بين فندق الفورسيزنز وحي السومرية بعد آخر أوتوستراد المزة لا تحتاج لأكثر من عشر دقائق بالسيارات البيضاء المصفحة للأمم المتحدة والمكتوب عليها UN. وأنا شخصيًا متأكد بأن كل ما جرى من انتهاكات موثقة بالفيديوهات لم يكن ليحدث لو أرسلت سيارة واحدة ووقفت على مدخل السومرية، وسمحت لموظفي المحافظة مثلًا أن يمارسوا عملهم القانوني والحقوقي كما يجب بأمنٍ وسلامٍ وحالةٍ مدنيةٍ بحتة، دون أن تُنتهك أعراض الناس وكراماتهم وحرماتهم على مرمى حجر من مقر بعثة الأمم المتحدة!!!
بالمناسبة، فقد أثرتُ الكلام ذاته مع صحفيين من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية عندما أجروا لقاءاتٍ صحفية معي من دمشق بعد سقوط النظام السابق، وقد أبلغتهم مذّاك بأن وجود الصحافة العالمية بكثرة في مناطق الساحل وغيرها سيشكّل أكبر ضمانة للسلم الأهلي، والغريب المريب أن عكس ذلك هو الذي حصل تمامًا، كما في رواية قصة موت معلن.
للمناسبة، ومنذ تشكيل بعثة الأمم المتحدة مع بدء الحراك والحرب في سوريا منذ خمسة عشر عامًا، فقد كان خطاب جميع المبعوثين منذ كوفي عنان وحتى غير بيدرسون المستقيل مؤخرًا، مرورًا بالأخضر الإبراهيمي وستيفان دي ميستورا، جميعهم ومن خلال اللقاءات العديدة واجتماعاتنا معهم، يؤكدون على العملية السياسية وعلى تطبيق القرارات الأممية، سواء تفاهم جنيف في حزيران 2012 أو القرار 2254 بعد ذلك حين تم إقراره، وكان يعتبر السلطة السورية شرعية لكنها منقوصة ما لم تذهب نحو تطبيق الحل السياسي. ولطالما حملت الإحاطات العديدة للمبعوثين الانتقادات للسلطة لتسويفها وانتهاجها لعبة شراء الوقت والتلهي بالسفسطة الجزئية في نقاش “الورقة” و”اللاورقة” ومتحف البهلوانيات الكلامية التي كانوا يجلدون الوطن السوري الجريح بها بينما تترهل الدولة. والغريب أن مكتب الأمم المتحدة ذاته قد بدأ ينتهج الأسلوب ذاته الذي كان هو ينتقده عند سلطة الأسد، من خلال السماح لسلطة الأمر الواقع الحالية بممارسة ما هو أكثر، بالأدلة العلمية ودون عواطف أو ميولٍ غرائزية، ويقوم مع الكثير من الدبلوماسيين بتجاهلٍ مريبٍ لعدم ورود كلمة “ديمقراطية” مثلًا أو “حل سياسي”، والتصفيق لأي مشاركة شكلية لبضعة وزراء من طوائف متعددة مع وجود سياسةٍ ممنهجةٍ طاغية قامت باقتلاع مكوناتٍ بشريةٍ كاملة عن جسم الدولة بلا أي معيار أو رقيب.
إن السوريين مدعوون إلى التركيز بجدٍّ على القضايا المعيارية الرئيسية التي تؤثر على مصير بلدهم، بالمعنى الجذري، وحدته وعدم شرذمته ووحدة مجتمعه ومنع الفتن والاقتتال والمجازر قبل أي قضايا ثانوية، ولو كانت مهمة، وقبل أي حرفٍ عن هذا المسار. كما أن الأمم المتحدة مدعوة إلى الجدية في تعيين مبعوثٍ دوليٍّ جديد إلى سوريا بدلًا من المستقيل غير بيدرسون، يحمل مواصفات المبعوث الدولي بحق، الذي يدرس واقع البلد والعوامل التي تؤدي إلى أمنه وسلامه وفق ميثاق الأمم المتحدة، ويعين فريقًا عاملًا متوازنًا ومنصفًا معه وغير تابعٍ لأجنداتٍ أو أهواء. وهذه دعوة للدول المؤثرة في العالم والعالم العربي لتقف على هذه المسؤولية، لأن الفشل في هذا الاستحقاق يمكن أن يؤدي إلى حربٍ أهليةٍ تتدحرج لتصيب المحيط بكامله من تركيا إلى الخليج.
عضو لجنة التواصل في الكتلة الوطنية السورية.
طارق الأحمد