أحدث المنشورات
التصنيفات
كلمات مفتاحية
- Home
- مقالات
بعد أكثر من عقدٍ من الألم وسنواتٍ من القهر والدمار، تقف الأسرة السورية اليوم على عتبة مرحلةٍ جديدة من تاريخها، تتأرجح بين مرارة الماضي وتطلعات المستقبل. فبعد سقوط النظام الاستبدادي الذي كبّل البلاد لعقود، تبدو الأسرة — تلك النواة الأولى للمجتمع — أمام تحدٍّ مزدوج: كيف تُرمِّم ما انكسر في داخلها، وكيف تساهم في بناء وطنٍ يليق بتضحياتها؟
لقد تضرّرت بنية الأسرة السورية على مستوياتٍ عدّة. آلاف العائلات فقدت منازلها، ونزحت داخلياً أو لجأت إلى بلدانٍ بعيدة، فانفرط عقد الأسرة الممتدة، وضعفت الروابط التي كانت تشكّل شبكة الأمان الاجتماعي الأولى. ومع كل عامٍ يمر، تزداد مسؤوليات الأمهات والآباء، بل والأطفال أيضاً، الذين أُجبروا على تحمّل أعباء تفوق أعمارهم. وأشار أحد التقارير إلى أنّ شهر رمضان الماضي شهد لمّ شملٍ لبعض الأسر التي تشبّثت بالأمل بعد سقوط النظام، لكن الغالبية ما تزال تعيش التشتّت والفقد.
ويُضاف إلى ذلك ملفّ الفقدان القاسي: أبناء وآباء لا يُعرف مصيرهم بعد الاعتقال أو الاختطاف أو القتال. هذا الغياب لا يمسّ الجسد فقط، بل يترك فراغاً نفسياً عميقاً؛ فالأبوة والأمومة تُغيَّبان قسراً، ويكبر الطفل في بيئةٍ يفتقد فيها الشعور بالأمان والانتماء. في المقابل، تواجه الأسر التي نجت من الحرب صعوباتٍ اقتصادية خانقة: انهيار الخدمات، وتراجع فرص العمل، وارتفاع تكاليف التعليم والرعاية الصحية، فضلاً عن آثار الصدمة النفسية التي تطال كل فردٍ من أفرادها.
ومع هذا الخراب، برزت تحوّلات عميقة في الأدوار داخل الأسرة. فقد حملت المرأة مسؤولياتٍ مضاعفة في ظلّ غياب الرجل، وأصبحت كثيرٌ من الأسر تعتمد على تعاون الجيران أو الأقارب لتأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار. هذا التبدّل في البنية الاجتماعية لا يخلو من توتّرات، إذ تتداخل فيه الحاجة إلى التكيّف مع مشاعر الإنهاك والخوف من المستقبل. ومع أنّ المجتمع السوري ما زال يفتقر إلى منظومة دعمٍ مؤسسية حقيقية، فإنّ روح التكافل الشعبي أثبتت قدرتها على التجدّد في أحلك الظروف.
ورغم انتهاء الحكم السابق، لم يتحقّق بعد الاستقرار المنشود. فما تزال بعض المناطق تعاني من انعدام الأمن، وانتشار الخطف لأسباب سياسية أو مالية، واستمرار مظاهر العنف الطائفي التي تركت ندوباً غائرة في النسيج الاجتماعي. وفي ظلّ هذا الواقع، يعيش كثيرٌ من الأسر في خوفٍ دائم على أحبّائهم، ويجدون صعوبةً في ممارسة حياةٍ يومية طبيعية أو إرسال أطفالهم إلى المدارس بأمان.
لكن وسط هذا الركام، تظلّ الأسرة السورية علامة الصمود الأولى. فهي التي احتضنت أبناءها رغم الخسارة، وواصلت الحياة رغم الدمار. إنّ استعادة تماسك الأسرة ليست مسألة اجتماعية فحسب، بل هي قضية وطنية تتعلّق بمستقبل سوريا كلّها. فالمجتمع لا ينهض بالسياسة وحدها، بل بالإنسان القادر على العطاء، المتوازن في وجدانه، والواثق بانتمائه.
من هنا، يعمل مكتب الأسرة والمجتمع في الكتلة الوطنية السورية على إصدار مجموعة من المقالات والدراسات، إيماناً منه بأنّ بناء الدولة الجديدة يبدأ من البيت. وسنُسلّط الضوء على قضايا الأسرة السورية في مرحلة ما بعد الحرب، من التربية والتعليم إلى الصحة النفسية، ومن دور المرأة إلى حماية الطفل، وصولاً إلى السياسات العامة التي تعيد للأسرة مكانتها ودورها في إعادة إعمار الوطن.
فالأسرة ليست ضحية الحرب فحسب، بل أداة النهوض منها. هي حجر الأساس الذي ستقوم عليه سوريا الحرّة والعادلة لسوريا الإنسان، والكرامة، والذاكرة التي لا تُمحى مايجعل بناء الأسرة السورية من جديد ليس مهمة عاطفية فحسب، بل هو مشروع وطني طويل النفس، يحتاج إلى رؤيةٍ شاملة تعيد للإنسان قيمته وللمجتمع توازنه. فاستقرار الأسرة هو الأساس الذي تُبنى عليه دولة العدالة والمواطنة، وهو الشرط الأول لأي نهضةٍ اجتماعية واقتصادية قادمة
لجنة الأسرة والمجتمع _ الكتلة الوطنية السورية